في زمنٍ مضى، لم يكن اللعاب أكثر من سائلٍ شفافٍ يُهمَل في التحاليل، ويُستبعد من أدوات التشخيص. وكان يوصف باستهانة بأنه «ماء لا قيمة له»، لا يثير اهتمام الطبيب، ولا يلتفت إليه الباحث. لكن تلك القطرات المتواضعة التي تسيل عند الجوع أو الخوف، كانت تخبّئ أسراراً بيولوجية لم تُفكّ شفرتها بعد.
مرآة طبية دقيقة
اليوم، تغيّرت الصورة بالكامل. فقد تحوّل اللعاب إلى مرآة طبية دقيقة، تعكس أحوال الجسم من الفم إلى الدماغ، ومن العظام إلى المزاج، مدعومةً بأقوى أدوات العصر: الخوارزميات الذكية.
نحن لا نشهد مجرد تطور في أدوات التحليل، بل نقف أمام ثورة تشخيصية صامتة، قادتها جزيئات مخفية في لعاب الإنسان، وسرّعت مسارها تقنيات التعلم العميق والذكاء الاصطناعي.
• «إفراز مهمَل» بمؤشرات حيوية: في دراسة رائدة نُشرت في مجلة npj Digital Medicine التابعة لمجموعة Nature في يوليو (تموز) 2025، أعلن فريق بحثي من جامعة كاليفورنيا – لوس أنجليس (UCLA) تطوير منصة متقدمة لتحليل اللعاب باستخدام الذكاء الاصطناعي، قادرة على استخلاص مؤشرات حيوية دقيقة خلال أقل من 10 دقائق، وبدقة وصلت إلى 92.4 في المائة.
تقول المشرفة على الدراسة، البروفسورة إيما لي: «نحن لا نحاول فقط فهم ما يقوله اللعاب… بل نعلّمه كيف يتحدث بلغة الآلة، ليصبح وسيلة غير جراحية لفهم الأمراض قبل أن تظهر أعراضها».
• سجل رقمي للصحة: التحوّل الذي نشهده لا يتعلق فقط بتقنية، بل برؤية جديدة للطب: رؤية ترى في لعاب المريض سجلاً رقمياً للصحة، يُقرأ بلا إبرة، ويُحلَّل بلا ألم، وتُفسِّره نماذج ذكية مدرَّبة على التوقع لا على التكرار.
في خضمّ هذه الطفرة، قد لا يكون مستغرباً أن تصبح أول خطوة في الفحص الطبي المستقبلي هي: «ابصق هنا من فضلك» -لا لزراعة الجراثيم، بل لتحليل مستقبلك الصحي.
اللعاب يبوح بما تخفيه الأعضاء
قد يبدو بسيطاً عند النظر إليه، لكنه في الحقيقة أكثر تعقيداً مما نتصور. فاللعاب لا يقتصر على كونه سائلاً مرطباً للفم، بل يحمل في طيّاته أكثر من 700 بروتين و200 مركب كيميائي، تتوزع بين إنزيمات هضمية، وجزيئات مناعية، ومؤشرات عصبية، وهرمونات دقيقة تبوح بأسرار التمثيل الغذائي والعقلي والعظمي.
ومع تسارع تقنيات تعلم الآلة، أصبح بالإمكان تحويل هذه المعلومات المعقّدة إلى أنماط رقمية قابلة للتحليل، بل التنبؤ، بدقة تتجاوز التقدير البشري.
وإليكم بعض الأمثلة المذهلة التي بدأت تنتقل من المختبرات إلى العيادات:
• داء السكري: قبل أن يظهر الخلل في نسبة السكر بالدم، يبدأ اللعاب في إرسال إشارات دقيقة من خلال ارتفاع بعض المركّبات مثل إنزيم الأميلاز-ألفا (α-amylase)، والبروتين المتفاعل C (C-reactive protein – CRP). وتقوم الخوارزميات الذكية بالتعرّف على هذه التغيّرات الطفيفة، فتُطلق إنذاراً مبكراً لاحتمال الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني (Type 2 Diabetes)، حتى قبل أن تتمكّن التحاليل التقليدية من رصده.
• هشاشة العظام: في النساء بعد انقطاع الطمث، تظهر في اللعاب مؤشرات بيولوجية مثل أوستيوپونتين (Osteopontin – OPN) وكروس-لاكتيليوببتيد التيلوكولاجيني (C-terminal telopeptide of type I collagen – CTX)، وهي جزيئات تعبّر عن نشاط هدم العظام. ولا يكتفي الذكاء الاصطناعي برصد هذه العلامات، بل يُحلل نمطها الزمني بدقة، ليقترح تدخلات وقائية مبكرة -مثل المكملات الغذائية أو تعديل النشاط الحركي- قبل أن يظهر التلف أو تتفاقم هشاشة العظام.
• سرطان الفم: عندما تبدأ الخلايا السرطانية بالتكاثر، تطلق أجزاء دقيقة من الحمض النووي والـmiRNA في اللعاب. وقد أثبتت الخوارزميات الذكية قدرتها على فك شيفرة هذه الجزيئات، وربطها بأنماط محددة للسرطان، مما يسمح بالكشف المبكر عن الورم وتحديد موضعه حتى قبل ظهور الأعراض السريرية أو الحاجة إلى خزعة.
• ألزهايمر… حين يترك الدماغ أثره في الفم: المفارقة أن أمراض الدماغ، مثل ألزهايمر، لا تبقى حبيسة الجمجمة. فبروتينات Tau وAmyloid-β المميزة لهذا المرض تترسب في اللعاب بنسب دقيقة. واليوم، تعمل فرق بحثية في كندا واليابان على تدريب خوارزميات التعلم العميق (Deep Learning) على ربط هذه النسب بمدى تدهور الذاكرة، في محاولة لتقديم وسيلة تشخيص مبكر لا تعتمد على صور الدماغ أو البزل القَطَنيّ.
• في عيادة طب الأسنان… إلى رائحة الفم: حتى في مجال طب الأسنان، لم يعد اللعاب مجرد إفراز عابر، بل تحوّل إلى أداة تشخيصية دقيقة. وعلى سبيل المثال، تقوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) بتحليل وجود بكتيريا لا هوائية معيّنة، مثل فيوسوباكتيريوم نوكلياتوم (Fusobacterium nucleatum)، وتربطها بمستويات المركّبات الكبريتية الطيّارة (Volatile Sulfur Compounds – VSCs) التي تُعدّ السبب الرئيسي لرائحة الفم الكريهة.
لكن الأمر لا يتوقف عند حدود التشخيص، بل يتجاوزها إلى توصيات علاجية شديدة التخصص: هل يحتاج المريض إلى تغيير نوع معجون الأسنان؟ أم إلى غسول فم يحتوي على الكلورهيكسيدين (Chlorhexidine)؟ أم ربما إلى حمية غنية بالبروبيوتيك (Probiotic-Rich Diet)؟
لم يعد القرار خاضعاً لذوق الطبيب فقط، بل مبنيّ على توصية خوارزمية مدعومة بالبيانات.
لماذا يهمّنا هذا في العالم العربي؟
إننا في منطقة تُسجِّل فيها الأمراض المزمنة أرقاماً مفزعة، دون أن يقابلها -حتى الآن- مستوى كافٍ من أدوات الكشف المبكر. فالسكري، مثلاً، يُصيب نحو 18 في المائة من سكان دول الخليج، ونسبته في ازدياد، خصوصاً مع ارتفاع معدلات السمنة وقلة النشاط البدني. أما هشاشة العظام، فتصيب واحدة من كل ثلاث نساء عربيات بعد سن الخمسين، غالباً دون أن يعلمن بذلك حتى يحدث أول كسر… بعد فوات الأوان.
في هذا السياق، يصبح اللعاب أكثر من مجرّد إفراز. إنه وسيلة تشخيصية صامتة، لا تحتاج إلى وخز إبرة، ولا إلى أجهزة باهظة، بل فقط إلى خوارزمية جيّدة… ونظرة استباقية.
ومع تنامي المشاريع البحثية في جامعات عربية مثل: جامعة الملك سعود، وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وجامعة القاهرة، وجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي… بدأنا نرى نماذج أولية لتحاليل لعابية تُجريها العيادات الجامعية لتقييم احتمالات الإصابة بالسكري، أو متابعة استجابة مرضى السرطان للعلاج.
نحن، إذن، أمام لحظة تحوّل قد تعيد رسم دور طبيب الأسنان في العالم العربي: من معالج للتسوس… إلى كاشف مبكر لأمراض الدماغ والعظام والدم.
فربما، قريباً، سيكون أول من يُحذّرك من ألزهايمر… هو طبيب أسنانك.
إذن… لم يعد اللعاب «ماءً شفافاً» يُترك جانباً… بل وثيقة طبية حية، تنطق بصمت، وتبوح بأسرار الجسد والعقل مع كل قطرة. إنه المرآة التي تعكس ما لا يُرى، واللغة التي لا تحتاج إلى كلمات.
وفي زمن تتكامل فيه الخوارزميات مع البيولوجيا، لم نعد بحاجة إلى وخز الإبر ولا إلى أيام انتظار نتائج التحاليل… بل فقط إلى خيط من اللعاب، وخوارزمية تُحسن الإصغاء.
وربما في المستقبل القريب، سيكون السؤال في العيادة: «هل بإمكانك البصق هنا؟» ويكون الجواب: «نعم، لأفهم صحتي… قبل أن يخذلني جسدي».