يشهد الاقتصاد العالمي في المرحلة الراهنة تحولات متسارعة تعكس تعقيدات المشهد التجاري والمالي الدولي، فقد باتت السياسات الاقتصادية، وعلى رأسها الرسوم الجمركية الأميركية، عاملاً محورياً في رسم ملامح النمو وتحديد اتجاهات الأسواق، وسط بيئة تتسم بارتفاع معدلات عدم اليقين.
تطرح هذه التحولات تساؤلات جوهرية حول قدرة الاقتصادات الكبرى والصاعدة على التكيف مع الضغوط المستجدة، خاصة في ظل ما يرافقها من تداعيات على التجارة العالمية وسلاسل الإمداد والتضخم.
ويفتح هذا المشهد الباب أمام نقاش أوسع بشأن انعكاسات القرارات التجارية والسياسات الحمائية على استقرار النظام الاقتصادي العالمي، في وقت تتزايد فيه المخاوف من عودة مظاهر التوتر التجاري وتنامي الصراعات المرتبطة بالمصالح الوطنية على حساب التعاون الدولي.
وبينما تقبل الاقتصاد العالمي زيادة الرسوم الجمركية الأميركية “بصدر رحب”، إلا أن هناك رياحاً معاكسة أقوى في المستقبل، وفق تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال”، أشار إلى أن الرسوم الجمركية المرتفعة تؤدي الآن إلى ضعف تدفقات التجارة. ويضيف التقرير:
- الاقتصاد العالمي استقبل الارتفاع الحاد في التعرفات الجمركية الأميركية وتزايد حالة عدم اليقين بشأن مستقبل النظام التجاري الدولي بسهولة، لكنه يواجه رياحاً معاكسة أقوى مع استمرار ارتفاع معدلات الضرائب.
- مع إصدار المزيد من الدول لأرقام النمو الاقتصادي التي تغطي الربع الثاني من هذا العام، برز نمط واضح؛ فالشركات التي نمت بسرعة في الربع الأول، مع تسابق الشركات الأميركية على بناء مخزوناتها قبل فرض رسوم جمركية أعلى، تباطأت في الربع الثاني مع فرض تلك الرسوم.
- كان المثال الأبرز على هذا التأرجح هو أيرلندا، التي ارتفع ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 7.4بالمئة في الأشهر الثلاثة حتى مارس، قبل أن ينخفض بنسبة 1 بالمئة في الأشهر الثلاثة حتى يونيو.
- صدرت نسخة أقل حدة من البيانات الصادرة يوم الخميس عن وكالة الإحصاء البريطانية، والتي سجلت تباطؤًا من 0.7 إلى 0.3 بالمئة بين الربعين الأول والثاني. وأعلنت سويسرا يوم الجمعة أن النمو تباطأ من 0.8 إلى 0.1 بالمئة.
- مع بداية النصف الأول من العام، كانت الأرقام جيدة جداً لكل من المملكة المتحدة وسويسرا. ورغم أن عدداً من الاقتصادات الكبرى لم يُصدر بعد بيانات الربع الثاني، يبدو جلياً أن النمو الاقتصادي العالمي صمد بشكل أفضل من المتوقع في ظل خطر فرض رسوم جمركية مرتفعة.
وكانت اليابان من بين أحدث الدول التي نشرت بياناتها يوم الجمعة، مسجلةً انتعاشًا في النمو خلال الربع الثاني بعد بداية قوية للعام مقارنةً بالتوقعات السابقة.
ويضيف التقرير: “هناك قطاعات من الاقتصاد العالمي لم تتأثر حتى الآن بتوقع أو حقيقة ارتفاع الرسوم الجمركية.. سجلت إسبانيا نمواً بنسبة 0.6 بالمئة في الربع الأول، ثم تبعتها بنسبة 0.7 بالمئة في الربع الثاني. وشهد اقتصاد بولندا، الأصغر حجمًا، تجربة مماثلة.
ويوضح التقرير أن الاختيار الذي اتخذته العديد من البلدان في التخلي عن الانتقام قد يعد بمثابة سلسلة من الخسائر بالنسبة لهم وسلسلة من الانتصارات بالنسبة للولايات المتحدة. ولكن هذه الخيارات هي أيضا انتصارات للاقتصاد العالمي، وفي الوقت الحالي يبدو العودة إلى فوضى الانتقام في ثلاثينيات القرن العشرين غير مرجح.
ويضيف: هذا لا يعني أن الاقتصاد العالمي لم يتضرر من ولع الرئيس ترامب بفرض ضرائب على الواردات. بل على العكس تماماً. ولكن سيستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن يتضح تأثير زيادات الرسوم الجمركية المتفق عليها بالفعل، ومن المرجح أن تؤدي زيادات أخرى في الرسوم إلى تفاقم الضرر.
مزيد من الوقت
يقول رئيس قسم الأسواق المالية في شركة FXPro ميشال صليبي لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: نحتاج لمزيد من الوقت لمعرفة التبعات الكاملة للرسوم الجمركية على الاقتصاد العالمي، لكن هناك بعض النقاط التي يمكن تحليلها وتوقعها في الفترة المقبلة إذا بقيت الأمور مستقرة على حالها.. وهي كالتالي:
أولاً: تباطؤ التجارة العالمية
- من المرجح أن نشهد تباطؤاً في التجارة العالمية؛ إذ أن الرسوم الجمركية ترفع تكاليف الاستيراد والتصدير، ما قد يقلص حجم التدفقات التجارية ويضغط على سلاسل التوريد.
- هذه العوامل بدورها تعتبر كلمة السر في أي هبوط محتمل.
- هذا التباطؤ قد ينعكس على الاقتصادات الكبرى مثل الولايات المتحدة، الصين، ومنطقة اليورو. وهو ما قد يدفع الشركات الإقليمية لاتخاذ إجراءات وقائية تتلاءم مع هذه الظروف.
ثانياً: ضغوط تضخمية متزايدة
- الرسوم الجمركية ترفع أسعار السلع المستوردة، من الإلكترونيات وصولاً إلى السلع الأساسية، وهو ما يظهر بالفعل في مؤشرات التضخم وأسعار المستهلكين.
- هذا الأمر يعقد مهمة البنوك المركزية، التي قد تجد نفسها أكثر حذراً في خفض أسعار الفائدة، رغم أن تباطؤ النمو يدفع في الاتجاه المعاكس.
ثالثاً: تحديات تواجه الشركات
- نتائج الربع الثاني حتى الآن تبدو إيجابية نسبياً، لكن الربع الثالث قد يكون أكثر وضوحاً من حيث انعكاس هذه الرسوم على الشركات متعددة الجنسيات المعتمدة على سلاسل التوريد العالمية.
- من المتوقع أن تتراجع هوامش الأرباح، وربما تسعى بعض الشركات إلى نقل خطوط إنتاجها، لكن هذه التغييرات تحتاج وقتاً أطول قبل أن تؤتي ثمارها.
رابعاً: تحديات على مستوى الأسواق والاستثمارات
- ازدياد حالة عدم اليقين يضغط على شهية المخاطرة ويدفع المستثمرين للجوء إلى الأصول الآمنة مثل الذهب والسندات.
- أما في أسواق الأسهم، فالقطاعات الأكثر تعرضاً للتقلبات ستكون التكنولوجيا، السيارات، والسلع الاستهلاكية.
- رغم ذلك، فإن أي خطوة من الاحتياطي الفيدرالي نحو خفض أسعار الفائدة قد تساعد على إعادة بعض التوازن للأسواق.
ويختتم صليبي حديثه قائلاً: “نحن قادمون على فترة غير واضحة المعالم، والتحدي سيكون في إيجاد حلول فعالة لحماية الأسواق والمستهلكين في نهاية المطاف”.
رسم خارطة التجارة
ويقول محللون إن استخدام الرئيس الأميركي للرسوم الجمركية كسلاح غير مباشر لانتزاع التنازلات في كل شيء بدءا من التجارة وحتى الهجرة والاتجار بالمخدرات “قد يعيد رسم معايير التجارة العالمية”، بحسب صحيفة ستريتس تايمز، في تقرير تحت عنوان “تكتيكات ترامب في فرض الرسوم الجمركية قد تعيد تشكيل التجارة العالمية”.
منذ تنصيبه في 20 يناير،كشف ترامب عن رسوم جمركية شاملة على السلع الكندية والمكسيكية بسبب الهجرة والفنتانيل غير القانوني، كما رفع الرسوم الجمركية على الواردات الصينية في الوقت نفسه، مما أثار ردود فعل انتقامية.. ويرى ترامب أن التعرفات الجمركية هي وسيلة لزيادة الإيرادات ومعالجة اختلالات التجارة والضغط على الدول للتحرك بشأن المخاوف الأميركية.
ولكن “درجة عدم اليقين بشأن السياسة التجارية قد انفجرت بشكل أساسي”، كما ينقل التقرير عن الزميل البارز في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، الدكتور موريس أوبستفيلد.
ويشير إلى أن المحللين يمكنهم محاولة التنبؤ بالأماكن التي قد يتم فرض الرسوم الجمركية فيها استنادا إلى المتغيرات الاقتصادية، لكن بناء السياسة التجارية على أهداف غير اقتصادية قد يدفع الأمور إلى حالة من الفوضى.
تأثير قوي
خبير أسواق المال، هيثم فهمي، يقول لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن تأثير الرسوم الجمركية الأميركية على الاقتصاد العالمى “تأثير قوي وواضح”، ذلك أن الولايات المتحدة أكبر اقتصاد فى العالم، وهى أيضاً أكبر مستورد فى العالم، ومن بين أبرز هذة التأثيرات هى:
- تراجع نمو التجارة العالمية نتيجة تراجع التبادل التجارى وخاصة مع الصين والاتحاد الأوروبى.
- زيادة معدلات التضخم، ذلك أنه في النهاية سيتم نقل الأعباء التى تضيفها الرسوم الجمركية إلى المستهلك النهائي.
- اضطراب سلاسل الإمداد نتيجة لجوء بعض الشركات لنقل مانعها من دول إلى دول أخرى لتفادي الرسوم الجمركية.
ويعتقد بأن “كل هذة التأثيرات فى النهاية ستؤدى إلى تراجع النمو العالمى، وهذا ما أشار صندوق النقد الدولى فى عدة تقارير صادرة عنه”.