يتصاعد الجدل في الأوساط الاقتصادية العالمية حول استقلالية البنوك المركزية، مع تنامي الضغوط السياسية التي تهدد دورها كركيزة للاستقرار المالي.
تجد هذه القضية صدى واسعاً في الولايات المتحدة، حيث تتقاطع الحسابات السياسية للرئيس دونالد ترامب، مع آليات صنع القرار النقدي في لحظة بالغة الحساسية للاقتصاد العالمي.
يطرح هذا الجدل تساؤلات جوهرية حول قدرة البنوك المركزية على تنفيذ مهامها بعيداً عن التدخلات قصيرة الأجل، خاصة في ما يتعلق بمكافحة التضخم وضمان الثقة في الأسواق. ويبرز هنا البعد التاريخي الذي رسّخ مفهوم الاستقلالية باعتباره أداة أساسية للحفاظ على استقرار الأسعار والاقتصاد الكلي.
ويتزامن هذا النقاش مع تحذيرات من خبراء وقادة اقتصاديين بارزين بشأن المخاطر التي قد تترتب على تقويض استقلالية السلطات النقدية، بدءاً من اتساع حالة عدم اليقين في الأسواق، وصولاً إلى تهديد النمو الاقتصادي وزعزعة ثقة المستثمرين الدوليين.
أطلقت كريستين لاغارد تحذيرا للرئيس الأميركي دونالد ترامب، منبهة إلى أن الاقتصاد الأميركي “معرض لخطر عدم الاستقرار” مع سعيه إلى التدخل في عمل مجلس الاحتياطي الفيدرالي.
وأكدت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، أن البنوك المركزية يجب أن تظل مستقلة إذا كانت تريد التركيز على وظائفها في السيطرة على التضخم ودعم الاقتصاد.
وإذا تم تقويض استقلالية السياسة النقدية “فستُصبح غير فعّالة، وتبدأ بفعل ما لا ينبغي لها فعله”، كما قالت في مقابلة مع فوكس نيوز، شددت خلالها على أن “الخطوة التالية هي الاضطراب.. إنه عدم استقرار، إن لم يكن أسوأ. لذا أعتقد بأنه لا ينبغي مناقشة هذا الأمر”.
ورغم أنها لم تذكر الرئيس الأميركي بالاسم، فإن تعليقات لاغارد تأتي على خلفية الضغوط المتزايدة من ترامب على بنك الاحتياطي الفيدرالي ورئيسه جيروم باول، وفق صحيفة تليغراف.
- كان الرئيس الأميركي قد عين باول في هذا المنصب خلال فترة ولايته الأولى في البيت الأبيض، لكنه وصف صانع السياسة النقدية لاحقاً بأنه “أحمق” و”السيد المتأخر جدًا” لرفضه خفض أسعار الفائدة.
- انتقد ترامب أيضا تكلفة أعمال التجديد في بنك الاحتياطي الفيدرالي، مما أثار مخاوف في الأسواق المالية من أنه قد يسعى إلى إقالة باول.
- في الشهر الماضي، صرّح الرئيس الأميركي بأنه فكّر في إقالة محافظ البنك المركزي، لكنه رأى أن هذه الخطوة “مستبعدة للغاية”. تنتهي ولاية السيد باول في مايو المقبل.
وتقول لاغارد إنه لا ينبغي تقويض بنك الاحتياطي الفيدرالي، مردفة: “استقلال أي بنك مركزي أمر بالغ الأهمية.. علينا أن نكون مسؤولين، وأن نرفع تقاريرنا ونجيب على جميع أسئلة الكونغرس الأميركي أو البرلمان الأوروبي، من وجهة نظري.. لكن من الأهمية بمكان أن يكون البنك المركزي مستقلاً”.
ويرى خبراء الاقتصاد عادة أن استقلال البنك المركزي هو وسيلة لمنع السياسيين من خفض أسعار الفائدة بما يتناسب مع الجدول الزمني الانتخابي، والسعي المحتمل إلى هندسة طفرة مؤقتة في الإنفاق والنمو، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى نتائج عكسية مع ارتفاع التضخم في السنوات اللاحقة، وفق تقرير الصحيفة.
لكن بعد أيام قليلة من تلك التحذيرات، أقال الرئيس الأميركي عضو الاحتياطي الفيدرالي ليزا كوك، في تصعيد وصفه تقرير لشبكة “سي إن بي سي” الأميركية بأنه “غير مسبوق ودراماتيكي” لهجمات ترامب على استقلال البنك المركزي.
وفي رسالة إنهاء خدمة كوك التي نشرت على موقع”تروث سوشيال” ، استشهد ترامب باتهامات من جانب مدير وكالة تمويل الإسكان الفيدرالية بيل بولتي بأنها أدلت بتصريحات كاذبة بشأن طلبات الحصول على قروض عقارية.
يقول خبير أسواق المال، محمد سعيد، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن استقلالية البنوك المركزية تعد من الركائز الأساسية لضمان اتخاذ قرارات نقدية موضوعية بعيدة عن الضغوط السياسية والمصالح قصيرة الأجل، مؤكداً أن التشكيك في هذه الاستقلالية يمثل تهديداً مباشراً لاستقرار الأسواق المالية والاقتصادات بشكل عام.
ويضيف سعيد: “فقدان استقلالية البنوك المركزية يولد حالة من الارتباك والاضطراب في الأسواق قد تصل إلى ما هو أسوأ من الاضطراب المالي، حيث ترتفع مخاطر التضخم والركود في آن واحد، وهو ما ينعكس سلباً على ثقة المستثمرين واستقرار النمو الاقتصادي.”
كما يشير إلى أن تصريحات رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد الأخيرة تؤكد أن التدخل السياسي في تحديد أسعار الفائدة والسياسات النقدية يخلق اختلالاً وظيفياً في الاقتصادات، ويقوض ثقة الأسواق في قدرة البنوك المركزية على تحقيق استقرار الأسعار ومواجهة التضخم.
ويوضح أن استقلالية السلطات النقدية تمنحها القدرة على إصدار قرارات مدروسة وحاسمة، خصوصاً في أوقات الأزمات كما حدث خلال جائحة كورونا، حيث لعبت البنوك المركزية دوراً محورياً في احتواء التداعيات الاقتصادية ودعم الاستقرار.
ويختتم سعيد حديثه قائلاً: “التدخلات السياسية المباشرة في عمل البنوك المركزية ترفع من احتمالية التشوهات في السياسات النقدية، وتزيد من تقلبات الأسواق، ما يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض وضغط إضافي على النمو.. ومن ثم فإن الحفاظ على استقلالية البنوك المركزية يظل ضمانة أساسية لتعزيز الثقة في الاقتصاد والحد من مخاطر الأزمات المتكررة.”
مصداقية البنوك المركزية
تقرير لصحيفة “الغارديان” البريطانية، يشير إلى أنه:
- مع مرور الوقت، يعتقد العديد من خبراء الاقتصاد بأن الاستقلال يضيف إلى مصداقية معركة البنك المركزي ضد التضخم، وهو ما قد يعني في بعض الأحيان رفع أسعار الفائدة ــ وهو ما يرفع تكاليف الاقتراض بالنسبة للمستهلكين ــ في لحظات سياسية صعبة.
- ترسخت أهمية استقلالية بنك الاحتياطي الفيدرالي لدى معظم الاقتصاديين بعد ارتفاع التضخم المتواصل في سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي. وقد اتُهم آرثر بيرنز، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق، على نطاق واسع بالسماح بتسارع التضخم المؤلم في تلك الحقبة، وذلك بخضوعه لضغوط ريتشارد نيكسون لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة قبل انتخابات عام 1972. وكان نيكسون يخشى أن تُكلفه أسعار الفائدة المرتفعة خسارة الانتخابات، التي فاز بها فوزًا ساحقًا.
- وفي المملكة المتحدة، عندما فاز حزب العمال بالسلطة في عام 1997، أعلن توني بلير وجوردون براون أنهما سوف يجعلان بنك إنجلترا مستقلاً، على أمل زيادة مصداقية السياسات الاقتصادية للحكومة.
أزمة كوك
وفي سياق متصل، يشير تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” إلى أن مساعي الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإقالة أحد كبار مسؤولي بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي تتجه إلى معركة قانونية عالية المخاطر، والتي ستكون بمثابة “اختبار حاسم لاستقلال البنك المركزي الأكثر أهمية في العالم”.
في حديثه خلال اجتماع وزاري متلفز استمر أكثر من ثلاث ساعات يوم الثلاثاء، دافع الرئيس الأميركي عن تحركه لإقالة ليزا كوك مساء الاثنين، مضيفًا أنه يتطلع إلى الحصول على “أغلبية قريبًا جدًا” في مجلس محافظي البنك المركزي.
ولكن محاولة ترامب لإجبار كوك على الاستقالة بسبب مزاعم الاحتيال في الرهن العقاري – التي قدمها حليفه والناقد المتكرر لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بيل بولت – قد وصلت بالفعل إلى المرحلة الأولى فيما من المرجح أن يثبت أنه أحد العديد من العقبات القانونية في قضية يمكن أن يكون لها تأثير عميق على استقلال مجلس الاحتياطي الفيدرالي .
وقال محامي كوك، آبي لويل، الذي دافع سابقًا عن غاريد كوشنروهنتر بايدن، يوم الثلاثاء إنه وموكلته “سيرفعان دعوى قضائية للطعن في هذا الإجراء غير القانوني”.
وقال لويل في بيان: “لا يملك الرئيس ترامب صلاحية إقالةليزا كوك.. محاولته إقالتها، بناءً على خطاب إحالة فقط، تفتقر إلى أي أساس واقعي أو قانوني”.
العمود الفقري
من جانبه، يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- “تشكل البنوك المركزية العمود الفقري للسياسات النقدية في أي دولة، وأي ضغوط سياسية أو تشكيك في استقلاليتها يترك انعكاسات سلبية عميقة، سواء على ثقة المستثمرين بالاقتصاد الوطني أو على مصداقية النظام النقدي والمالي ككل”.
- ما نشهده اليوم من ضغوطات سياسية، على غرار ما يقوم به الرئيس الأميركي دونالد ترامب من تهديدات وتدخلات في عمل الاحتياطي الفيدرالي، هو مثال واضح على المخاطر التي تخلق حالة من عدم اليقين في الأسواق.
- التدخل في عمل البنوك المركزية يقود عادةً إلى ارتفاع عوائد السندات وضعف العملة المحلية، ويفتح الباب أمام خروج رؤوس الأموال من الدولة، الأمر الذي ينعكس مباشرةً على تقلبات حادة في الأسواق المالية.
ويضيف: الأخطر من ذلك أن تدخل الطبقة السياسية غالباً ما يكون مدفوعاً باعتبارات قصيرة الأجل، مثل الضغط لخفض أسعار الفائدة لدعم النشاط الاقتصادي، وهو ما قد يؤدي بشكل مباشر إلى ارتفاع معدلات التضخم ويضعف مصداقية الدولة أمام المستثمرين الدوليين.