الرئيسية » عالم ما بعد أميركا.. كيف تفكر الصين؟

عالم ما بعد أميركا.. كيف تفكر الصين؟

by ekram

يشير تصاعد الخطاب الصيني في الآونة الأخيرة إلى تحولات أعمق في المشهد الدولي، حيث تسعى بكين إلى تكريس رؤيتها لعالم جديد يتجاوز الهيمنة الأميركية، وهو التوجه الذي يأتي بالتزامن مع تراجع الثقة في قدرة واشنطن على فرض إرادتها منفردة، ومع بروز قوى أخرى تتطلع لتوسيع حضورها في معادلة النفوذ العالمي.

يبرز في هذا السياق مفهوم “عالم ما بعد أميركا“، وهو مصطلح بات يتردد على ألسنة الساسة والخبراء، ويعكس إدراكاً متنامياً بأن النظام الدولي يتغير بوتيرة متسارعة، لا سيما وأن الصراع لم يعد محصوراً في المنافسة الاقتصادية أو الجيوسياسية، وإنما يتداخل مع قضايا التكنولوجيا والطاقة والتحالفات الجديدة التي تعيد رسم ملامح التوازنات.

يترافق ذلك مع جهود صينية لتقديم نفسها بوصفها قوة قادرة على صياغة بديل عالمي يقوم على التعاون والمنفعة المتبادلة، بعيداً عن منطق الأحادية والتفرد بالقرار.

وبينما يثير هذا التحول نقاشات متباينة في العواصم الكبرى، تبقى معالم المرحلة المقبلة مرهونة بمدى قدرة بكين على تحويل طموحاتها إلى واقع ملموس.

في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” إلى أن الرئيس الصيني شي جين بينغ “يخطط لعالم ما بعد أميركا”، منبهاً إلى أنه “بقيادة الصين، تسعى مجموعة متنامية من الدول إلى تغيير النظام العالمي، ويبدو أنها تميل بشكل متزايد إلى العمل معاً”.

وينبه إلى أنه “إذا كان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد بدأ الآن في الاعتقاد بأن روسيا والصين وكوريا الشمالية تنوي مجتمعة تقويض القيادة الأميركية العالمية، فهو متأخر في تبني فكرة أصبحت مقبولة على نطاق واسع في واشنطن خلال سنوات بايدن”.

  • في الأشهر الأخيرة، قلل بعض المحللين من أهمية فكرة “محور الاضطرابات”، مشيرين إلى عدم وجود دعم روسي أو صيني ملموس لإيران عندما تعرضت للهجوم من قبل إسرائيل والولايات المتحدة في يونيو.
  • لكن كوريا الشمالية وإيران والصين لعبت جميعها أدواراً مهمة في دعم حرب روسيا في أوكرانيا. وصلت قوات كورية شمالية للقتال إلى جانب الروس في منطقة كورسك أواخر العام الماضي.
  • طائرات “شهيد” المسيرة، التي كانت تتساقط على المدن والقوات الأوكرانية بأعداد متزايدة في الأسابيع الأخيرة، صُممت في إيران، وتُصنع الآن في روسيا.
  • كما وفّرت التجارة مع الصين شريان حياة للاقتصاد الروسي، مما مكّنه من الصمود في وجه العقوبات الغربية.

رسائل الرئيس شي

في السياق، يُبرز تقرير لـ “رويترز” الرسائل التي بعثت بها الصين أخيراً خلال قمة شنغهاي للتعاون والعرض العسكري، مشيراً إلى هذا الاستعراض للنفوذ الدبلوماسي والصمود والطموح الجيوسياسي أسهم في تهدئة مخاوف بعض مراقبي الشؤون الصينية بشأن حيوية الرئيس البالغ من العمر 72 عاماً، المرتبطة بغيابات متقطعة وخطط خلافة غير معروفة حتى الآن. كما أسهم في تحويل الانتباه المحلي عن تباطؤ النمو، وفقاً للخبراء.

ونقل عن نيل توماس من جمعية آسيا، وهي مؤسسة بحثية مقرها نيويورك، قوله: “يُظهر هذا الأسبوع من الدبلوماسية المنتصرة لشي أنه لا يزال يُسيطر تماماً على سياسات النخبة في الحزب الشيوعي“.

وأضاف توماس أن شي، الذي عجز عن الحصول على نفس الشرعية من النمو الاقتصادي التي حظي بها أسلافه، لجأ إلى القومية “لمحاولة تعويض ذلك”، مردفاً: “إنها طريقة لتحويل الانتباه عن التحديات الاقتصادية وجعل المواطنين فخورين بكونهم صينيين، حتى لو كان من الصعب الشعور بذلك من خلال التجارب اليومية للبطالة وانخفاض أسعار المساكن وركود الأجور“.

تراجع الهيمنة

تقول الكاتبة الصحافية الصينية، سعاد ياي شين هوا، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن:

  • مفهوم “عالم ما بعد أميركا” لا يعني اختفاء القوة الأميركية فجأة، بل تراجع هيمنتها النسبية وبروز ملامح التعددية القطبية بشكل متسارع.
  • من هذا المنطلق، لا تنظر الصين إلى الأمر كصراع صفري أو عملية “إحلال محلّ”، بل كجزء من تحولات كبرى لم يشهدها العالم منذ قرن.
  • الصين تطرح رؤية مختلفة تقوم على بناء مجتمع ذي مصير مشترك للبشرية، حيث يكون التعاون والمنفعة المتبادلة هما السبيل الأمثل للتكيف مع المشهد الدولي الجديد.
  • من خلال مبادرات مثل الحزام والطريق، ومشاركتها الفاعلة في الأمم المتحدة، ومجموعة بريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، لا تسعى بكين إلى الهيمنة، بل إلى تقديم منتجات عامة عالمية عبر التعاون، وهو ما يميزها عن التجارب السابقة للقوى الكبرى التي ارتبطت بالصدام عند تغيّر موازين القوة.

وتضيف: “الصين تفكر بالمستقبل من خلال الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة والتنمية الخضراء والاقتصاد الرقمي، ليس فقط من أجل تحقيق التنمية الذاتية، بل أيضاً لتقاسم خبراتها والمساهمة في التنمية المستدامة عالمياً”.

كما تؤكد أنه برغم ما تواجهه من سوء فهم أو عداء في بعض الأوساط الغربية، تؤكد بكين أنها لا تتبنى عقلية الحرب الباردة، بل تدعو إلى الحوار والانفتاح، وإلى احترام تنوع الحضارات ورفض الأحادية.

ووفق الكاتبة الصينية فإن “عالم ما بعد أميركا يعني نظاماً دولياً متعدد الأقطاب، تسعى الصين أن تكون فيه شريكاً ومساهماً في بناء نظام أكثر عدلاً وتوازناً، قائم على التعاون بدلاً من المواجهة”.

تحولات جوهرية

وإلى ذلك، يقول الخبير الاقتصادي المتخصص في الشؤون الصينية جعفر الحسيناوي لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:

  • “إذا سارت الأمور وفق ما تخطط له الصين، فإن عالم ما بعد الهيمنة الأميركية قد يشهد تحولات جوهرية”.
  • أبرز تلك التحولات تحرر المنظمات الدولية من النفوذ الأميركي، وإمكانية تراجع مكانة الدولار كعملة مهيمنة لصالح العملات المحلية أو عملة دولية بديلة مثل عملة البريكس.
  • كما ستسود حالة من التوازن في العلاقات الدولية تتيح لجميع الدول الحصول على استحقاقاتها دون تمييز، مع غياب الدور التقليدي للولايات المتحدة كشرطي عالمي يفرض سياساته على الآخرين.

ويضيف: “قد تتحرر التجارة الدولية من سطوة واشنطن وضرائبها المفروضة على السلع، مع إمكانية نشوء منظمات جديدة تهدف إلى تعزيز رفاهية الشعوب ومكافحة الفقر والجريمة المنظمة والإرهاب والمخدرات”، منبهاً إلى أن هذه الرؤية تجلت بوضوح في البيان الختامي لمؤتمر منظمة شنغهاي للتعاون الذي عُقد مؤخراً في الصين، فيما تمثل العقود المبرمة بين البرازيل والشركات الصينية بالعملات المحلية، بعد انسحاب الشركات الأميركية، إشارة عملية على بدء تشكل نظام دولي يقوم على التعددية القطبية ونبذ التفرد بالقرار الدولي”، على حد قوله.

مخرجات شنغهاي

ويُجادل مدير مركز كارنيغي لروسيا وأوراسيا في برلين، ألكسندر غابويف، بأن منظمة شنغهاي للتعاون لا تزال منظمةً “فضفاضة ومُختلة وظيفياً” تعاني من انقسامات داخلية كثيرة. فهي تضم الهند وباكستان، اللتين خاضتا مؤخراً صراعاً مسلحاً قصيراً.

لكن آخرين يجادلون بأنه تم الاتفاق على تدابير هامة في قمة منظمة شنغهاي للتعاون. ويشير الخبير الاقتصادي والمصرفي الاستثماري السابق المقيم في طوكيو، جاسبر كول، إلى الاتفاق على إنشاء بنك تنمية تابع لمنظمة شنغهاي للتعاون، والذي سيركز على البنية التحتية وتمويل التجارة، وسيسعى إلى الترويج لبدائل للدولار، وفق ما نقلته “فايننشال تايمز”. ويرى كول أن “أسس هيكل مالي عالمي جديد قيد الإنشاء، ولكن ليس في واشنطن

قيادة العالم

من جانبه، يقول أستاذ الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن:

  • الصين تنظر إلى نفسها باعتبارها القوة المرشحة لقيادة مرحلة جديدة من العولمة تختلف عن النسخة التي صاغتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.
  • بكين تدرك أن العالم يتجه نحو تعددية الأقطاب، حيث لم تعد الهيمنة الأميركية المطلقة ممكنة في ظل صعود قوى اقتصادية وسياسية كبرى مثل روسيا والهند والبرازيل ودول الخليج.
  • بكين ترى أن ضعف النمو الاقتصادي الأميركي وتفاقم أزمات واشنطن الداخلية السياسية والاجتماعية، إضافة إلى تراجع قدرتها على فرض إرادتها منفردة في مناطق كبرى مثل الشرق الأوسط وأفريقيا، يفتح المجال أمامها لتقديم نموذج بديل يقوم على البراغماتية الاقتصادية والتعاون متبادل المنفعة، بدلًا من التدخلات العسكرية أو فرض القيم الأيديولوجية.
  • ومن هنا تأتي مبادرات مثل الحزام والطريق وانخراطها المتزايد في مؤسسات مثل بريكس ومنظمة شنغهاي، وهي كلها تعكس سعيها لبناء نظام اقتصادي عالمي جديد يقلّص الاعتماد على الدولار ويعزز استخدام العملات المحلية في التجارة.

ويشير الإدريسي إلى أن الصين تفكر بعقلية استراتيجية طويلة المدى، على عكس الولايات المتحدة التي تتحرك غالباً كرد فعل للأزمات؛ فهي (بكين) تبني خطواتها على تخطيط يمتد لعقود، مستندة إلى قوتها الاقتصادية والتكنولوجية والديموغرافية، وتراهن على أن المستقبل سيكون لمن يمتلك اليد العليا في مجالات التكنولوجيا الفائقة والذكاء الاصطناعي وسلاسل الإمداد والطاقة النظيفة، ولذلك تستثمر بكثافة في هذه القطاعات.

لكن في المقابل، يرى الادريسي أن بكين لا تسعى إلى “نسخ” النموذج الأميركي بقدر ما تهدف إلى صياغة واقع عالمي يقوم على التوازن وتجنب المواجهة المباشرة مع واشنطن، إذ تدرك أن الصدام المبكر قد يعرقل صعودها. لذلك تعتمد سياسة التدرج وكسب الحلفاء عبر الاقتصاد والتجارة، مع محاولة ملء الفراغات التي تتركها الولايات المتحدة في أفريقيا والشرق الأوسط.

You may also like