في خطوة مثيرة للجدل داخل الأوساط الاقتصادية والتكنولوجية، منح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الضوء الأخضر لشركتي إنفيديا وAMD لبيع رقائق H20 وMI308 إلى السوق الصينية، مقابل حصول الحكومة الأميركية على حصة نسبتها 15 بالمئة من المبيعات، وهو ما يعادل إيرادات سنوية تقترب من ملياري دولار.
هذا القرار، الذي جاء بعد فترة حظر استمرت لفترة طويلة على تصدير هذه الشرائح المتطورة إلى الصين، يفتح أمام المراقبين باب التساؤل حول دوافعه الحقيقية: هل يمثل هذا الانفتاح الاقتصادي استراتيجية مدروسة لتعزيز تنافسية الشركات الأميركية، أم هو خطوة تفاوضية سياسية وأمنية ضمن سباق السيطرة على مستقبل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا العالية؟
سوق الرقائق.. عملاق اقتصادي في صلب المنافسة العالمية
توضح الأرقام الضخمة حجم الرهان في هذه الصناعة الاستراتيجية؛ إذ يُقدر سوق أشباه الموصلات العالمي بنحو 627 مليار دولار هذا العام، مع توقعات أن يتضاعف ليصل إلى 1.2 تريليون دولار بحلول 2034. وتُباع سنوياً حوالي تريليون شريحة إلكترونية في العالم، ضمن صناعة تضم أكثر من 21,600 شركة وتشغل نحو مليوني موظف.
في ظل هذه الديناميكية، يُتوقع أن يستقطب القطاع نحو مليون وظيفة جديدة خلال السنوات الخمس المقبلة، مدفوعاً بتوسع استخدام الرقائق في قطاعات بالغة الحساسية مثل الدفاع، الفضاء، الاتصالات، السيارات، الطائرات، والبنية التحتية الرقمية التي تشكل عماد اقتصاد المستقبل.
المعادن النادرة.. ورقة القوة الصينية الاستراتيجية
من منظور تحليلي، يؤكد عاصم جلال، استشاري العلوم الإدارية وتكنولوجيا المعلومات في G&K، خلال حديثه لبرنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، أن الصين تملك ورقة مفصلية تتمثل في احتكارها المعادن النادرة، وهي عناصر حيوية لصناعة الرقائق. هذا الاحتكار يمنحها قوة تفاوضية استراتيجية لا يمكن تجاهلها في السوق العالمي.
يرى جلال أن الشرائح التي سمح ببيعها للصين أقل تطوراً من تلك المستخدمة داخل الولايات المتحدة، مما يقلل من المخاطر الأمنية المحتملة، خصوصاً في ظل الضغوط الأمنية التي تمارسها واشنطن. وعلى الجانب الآخر، تكبدت شركتا إنفيديا وAMD خسائر بنحو 20 بالمئة من أرباحهما في الربع السابق بسبب الحظر، مما دفع الإدارة الأميركية لإعادة التقييم بغية تحقيق توازن بين حماية الأمن القومي ودعم تنافسية الشركات الوطنية.
احتكار تكنولوجي محدود.. وقيود صارمة على التصدير
رغم اتساع حجم السوق، تظل صناعة الرقائق فائقة التطور محتكرة من قبل عدد محدود من اللاعبين الرئيسيين. تسيطر تايوان، عبر شركة TSMC، على 85 بالمئة إلى 90 بالمئة من إنتاج الرقائق أقل من 7 نانومتر، تليها شركة سامسونغ الكورية بحصة بين 9 بالمئة و14 بالمئة. بينما لا تتجاوز حصة باقي العالم 2 بالمئة فقط.
إلى جانب ذلك، تحتكر شركة ASML الهولندية تكنولوجيا الطباعة بالأشعة فوق البنفسجية، والتي تعتبر حيوية لصناعة هذه الشرائح، مع قيود صارمة على صادرات هذه التكنولوجيا إلى الصين. كما تظل المواد الكيميائية المتخصصة التي تنتجها شركات يابانية مثل Epson خارج متناول السوق الصينية نتيجة للحظر.
الذكاء الاصطناعي.. سلاح القرن الحادي والعشرين
يشير عاصم جلال إلى أن الهدف الاستراتيجي الأوسع من وراء هذه التحركات هو السيطرة على مجال الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح يُعتبر “قوة مضاعفة” تمنح التفوق العسكري والاقتصادي في النظام العالمي الجديد.
تحتفظ الولايات المتحدة بـ 75 بالمئة من مراكز البيانات العالمية، لكنها تواجه تقدمًا صينيًا ملحوظًا في براءات الاختراع والأبحاث الأكاديمية، فضلاً عن سيطرتها على بعض تطبيقات النماذج مفتوحة المصدر. على سبيل المثال، تهيمن النماذج الصينية على مجالات الفيديو والصورة في القوائم العالمية، باستثناء نموذج أميركي وحيد (Veo من جيميناي)، ما يعكس اختراقًا صينيًا في مجالات متخصصة، رغم وجود فجوة عامة مقارنة بالتفوق الأميركي.
تعكس صفقة ترامب مع شركتي إنفيديا وAMD مزيجًا معقدًا من المصالح الاقتصادية والجيوسياسية، حيث تحاول الولايات المتحدة الموازنة بين حماية أمنها القومي ودعم تنافسية شركاتها في سوق أشباه الموصلات المتنامي والمهيمن عليه بشكل حاسم. في ظل التنافس المتصاعد مع الصين على زعامة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، تبدو هذه الخطوة استراتيجيةً تهدف إلى تحقيق مكاسب مالية ملموسة مع الحفاظ على التفوق التكنولوجي، وسط تحديات صناعة تحتكرها قلة من اللاعبين العالميين وتتحكم بها قيود صارمة على التصدير والتقنيات الحيوية. المستقبل سيكشف مدى نجاح هذه التسوية في رسم ملامح جديدة لخارطة المنافسة التكنولوجية والاقتصادية بين القوى الكبرى.