تبرز الموانئ بوصفها مفاصل حيوية في شبكة التجارة العالمية، ومعابر استراتيجية تعكس موازين القوة بين الدول.. وبينما تتنافس القوى الكبرى على ترسيخ نفوذها عبر البحار، تسعى بعض الدول إلى إعادة رسم خريطة النفوذ التجاري عبر تحركات محسوبة واستثمارات مدروسة في البنية التحتية الحيوية.
في هذا السياق، تنظر الصين إلى الموانئ كأدوات استراتيجية لإعادة تموضعها على الساحة الدولية. فمنذ إطلاقها مبادرة “الحزام والطريق“، تسارعت تحركاتها لتعزيز حضورها في مرافئ العالم، لا سيما في أوروبا، مستغلة الأزمات الاقتصادية وفراغات النفوذ، ومتبنية سياسة تقوم على الدمج بين الاستحواذ والانخراط طويل الأمد في إدارة الموانئ.
في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” إلى أن:
- الصين سارعت إلى تسريع استثماراتها في الموانئ بعد إطلاق مبادرة الحزام والطريق؛ لتحديث طرق التجارة البرية والبحرية وإعادة إحياء طريق الحرير، الذي ربط الصين بأوروبا لعدة قرون من خلال مدن مثل فالنسيا في إسبانيا.
- التغيير في السيطرة على ميناء ما قد يؤدي إلى تغيير طرق التجارة ويشير إلى القوة الاقتصادية، وخاصة لأن أقل من عشر مجموعات شحن بما في ذلك كوسكو، وإم إس سي السويسرية، ومجموعة سي إم إيه سي جي إم الفرنسية، وأيه بي مولر-ميرسك الدنماركية تنقل كل حاويات العالم تقريبا.
- تنتشر الموانئ التي تستثمر فيها الصين الآن في جميع أنحاء العالم، وفقا لقاعدة البيانات التي أعدتها زونغ يوان زوي ليو في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك.
- وتسعى بكين عبر شركة كوسكو الحكومية إلى ترسيخ حضورها في موانئ أوروبا، مستفيدة من التحولات الجيوسياسية والتجارية، لا سيما بعد أن تسببت الرسوم الجمركية الأميركية التي فرضها الرئيس دونالد ترامب في إعادة توجيه الصادرات الصينية بعيداً عن السوق الأميركية، لتغزو الأسواق الأوروبية. وفي ظل هذا الواقع، أصبحت موانئ كإسبانيا مركزاً لنمو حركة الشحن الصيني، لا سيما في قطاعات مثل السيارات الكهربائية.
- اللافت أن الصين لا تعتمد فقط على بناء الموانئ من الصفر في العالم النامي، بل تمضي في أوروبا باستراتيجية “الاستحواذ الانتهازي” عبر اقتناص الفرص خلال الأزمات الاقتصادية، كما حدث في ميناء فالنسيا. ففي عام 2017، استحوذت كوسكو على حصة 51 بالمئة منه مستغلة أزمة الديون الإسبانية، ومغادرة مستثمرين أميركيين لم يرغبوا بالبقاء طويلًا في هذا القطاع.
ميناء فالنسيا تحديدًا أصبح عنوانًا للنجاح الصيني في أوروبا، بعد أن تفوقت حركته على ميناء بيرايوس، إذ ناول أكثر من 5.4 مليون حاوية مكافئة العام الماضي، متفوقًا على نظيره اليوناني. ويُصنف الآن كأكثر الموانئ المتوسطية ترابطًا في خطوط الشحن، وفق مؤشر الأمم المتحدة. ويعزز ذلك من قدرة الصين على تحريك البضائع بكفاءة في عمق السوق الأوروبي.
ويشير التقرير إلى أن الاستحواذ الصيني على البنية التحتية للموانئ الأوروبية يعكس تحولًا في ميزان القوى الاقتصادية. فعدد محدود من اللاعبين، بينهم كوسكو، MSC، CMA CGM، ومايرسك، يهيمنون على حركة الحاويات عالميًا. لذا، فإن السيطرة على بوابات الدخول والخروج في أوروبا تمنح بكين ورقة استراتيجية مؤثرة في معادلة التجارة العالمية.
الحزام والطريق
الكاتبة الصحافية الصينية سعاد ياي شين هوا، تقول لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- في السنوات الأخيرة، وبدفع من مبادرة “الحزام والطريق”، كثّفت الصين جهودها في بناء شبكة موانئ عالمية.
- من ميناء بيرايوس في اليونان إلى ميناء جوادر في باكستان، ومن كياوكفيو في ميانمار إلى ميناء ليكي في نيجيريا، شاركت الشركات الصينية بعمق في تشغيل الموانئ من خلال الشراكات والأساليب التعاقدية المختلفة، مما أسهم في تطوير محاور نقل استراتيجية تربط آسيا وأفريقيا وأوروبا.
- لم يعزز ذلك أمن وسلامة طرق الشحن الصينية فحسب، بل ساعد أيضاً الدول المضيفة على تطوير البنية التحتية وخلق فرص عمل، مما جسد مبدأ “المنفعة المتبادلة”.
وتشير إلى الدور المحوري للتكنولوجيا الصينية في هذا المسعى، إذ تم إدخال أنظمة ذكية وتقنيات الموانئ الخضراء والمعدات العاملة بالطاقة النظيفة، ما أسهم في رفع الكفاءة وتقليل الانبعاثات. كما أسهم الدمج بين الموانئ والسكك الحديدية والطرق السريعة في تعزيز الترابط الإقليمي وزيادة مرونة سلاسل الإمداد العالمية.
- ووفق الكاتبة الصينية، فإن الاستثمارات الصينية في الموانئ زخماً جديداً للتجارة الثنائية مع أوروبا، إذ وفر ميناء بيرايوس قناة لوجستية فعالة بين الصين وأوروبا. وتشير إلى أنه على الرغم من التحفظات الأوروبية، لا تزال هناك مساحة كبيرة للتعاون خاصة في مجالات الموانئ الخضراء والملاحة الذكية.
وتختتم حديثها قائلة: لم تعد شبكة الموانئ الصينية مجرد مسارات لوجستية، بل باتت منصة استراتيجية لتعزيز الترابط العالمي، وتوسيع التأثير الاقتصادي، ودفع عجلة التنمية المشتركة نحو نظام اقتصادي عالمي أكثر انفتاحًا وتعددية.
ترامب والحد من النفوذ الصيني!
ولا يروق النفوذ الصيني في بعض الممرات المائية للولايات المتحدة، وتسعى إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى الحد من هذا النفوذ الصيني حول قناة بنما.
- كانت شركة سي كي هاتشيسون، ومقرها هونغ كونغ، قد وافقت في مارس الماضي على بيع أكثر من 40 ميناءً في 23 دولة لمجموعة استثمارية بقيادة شركة بلاك روك المالية الأميركية، وكان الطرفان يهدفان إلى التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن الصفقة البالغة قيمتها 23 مليار دولار بنهاية الشهر.
- لفتت الصفقة المقترحة انتباه الرئيس الأميركي، الذي أعرب مرارا وتكرارا عن رغبته في الحد من النفوذ الصيني حول قناة بنما ووصف الصفقة بأنها “استعادة” للممر المائي بعد الإعلان عنها لأول مرة، وفق رويترز.
- لكن الآن، تسعى بكين إلى استغلال الصفقة بقوة والحصول على حصة لمجموعة كوسكو الصينية العملاقة للشحن، وفقًا لما ذكرته صحيفة وول ستريت جورنال يوم الخميس.
- قالت بكين إنها ستمنع بيع أكثر من 40 ميناء إلى اتحاد مدعوم من الولايات المتحدة إذا لم تحصل شركة الشحن الصينية كوسكو على حصة.
مبادرة استراتيجية
الخبير الاقتصادي المتخصص في الشؤون الصينية، جعفر الحسيناوي، يقول لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن بكين حين أطلقت مبادرتها الاستراتيجية “الحزام والطريق” كانت مدركة تماماً لأهمية تقليص اعتمادها على الممرات التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، وعلى رأسها مضيق ملقا الاستراتيجي. ومن هنا، بدأت بكسر هذا الاحتكار من خلال الاستثمار في سلسلة من الموانئ الدولية، بدءاً من سواحلها، مروراً بميناء بنغلادش، ثم ميناء “جوادار” الباكستاني، الذي يُعد من أبرز ركائز هذه السلسلة، لما يمثله من أهمية استراتيجية قصوى.
ويستطرد: استكملت بكين خطتها بتوسيع نفوذها البحري نحو ميناء “تشابهار” الإيراني، بالتوازي مع موانئ أخرى في شمال الخليج العربي، على رأسها ميناء “الفاو الكبير” في البصرة العراقية، وميناء “الخليج الكبير” في إيران، إلى جانب مجموعة من الموانئ القائمة مسبقًا.
ويوضح أن هذه الموانئ توفر للصين مرونة عالية في حركة تجارتها الدولية عبر ثلاثة ممرات حيوية: الممر الشمالي عبر الخليج العربي، والممر الجنوبي عبر مضيق باب المندب ثم قناة السويس وصولًا إلى البحر المتوسط، أما الممر الثالث فهو عبر رأس الرجاء الصالح، ويُعد خياراً احتياطياً في حالات الطوارئ نظراً لطول مدته.
ويتابع: تكمن الأهمية الجيوسياسية القصوى لهذه الموانئ في أنها تمنح الصين قدرة استراتيجية على السيطرة على أبرز طرق التجارة العالمية، ولذا أُطلق على هذا النسق البحري مصطلح “عقد اللؤلؤ”، لما يرمز إليه من شبكة متكاملة تعزز التفوق الصيني في مواجهة المنافسة الغربية، خاصة الأوروبية.